أميرة الورد عضو مميز
| موضوع: السيره الذاتيه للسيده خديجه عليها السلام الجمعة 17 أغسطس - 23:52 | |
| الفصل الثاني السيدة خديجة (عليها السلام) والدة الصديقة فاطمة الزهراء(عليها السلام) النسب الشريف
هي السيّدة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر. وعلى هذا فإن السيدة خديجة تلتقي بنسبها مع النبي العظيم محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)عند الجد الأكبر (قصي). من مقامات السيدة خديجة (عليها السلام)
من الاُمور المتَفق عليها عند الجميع أنَ السيدة خديجة(عليها السلام) كانت خير نساء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وذلك بتصريح من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أكثر من مرَة، وهذا إنما يدل على علو مقامها وجلالة قدرها (سلام الله عليها). فعن عائشة قالت: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)إذا ذكر خديجة لم يسأم من ثناء عليها واستغفار لها، فذكرها ذات يوم فحملتني الغيرة، فقلت: لقد عوَّضك الله من كبيرة السن!. قالت: فرأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)غضب غضباً شديداً، فسقطت في يدي فقلت: اللهمَ إنَك إن أذهبت بغضب رسولك(صلى الله عليه وآله وسلم)لم أعد بذكرها بسوء ما بقيت. قالت: فلمَا رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ما لقيت قال: كيف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، وصدَّقتني إذ كذَّبني الناس، ورزقت منّي الولد حيث حرمتموه. قالت: فغدا وراح عليّ بها شهراً(1). وفضلاً عن ذلك كله، فهناك العديد مما يدل على علو مقام السيدة خديجة(عليها السلام) نشير إلى بعضها: 1: اصطفاء الباري تعالى لها، حيث جعلها من النساء المختارات. عن أبي الحسن الأول(عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ الله اختار من النساء أربعاً: مريم وآسية وخديجة وفاطمة»(2). 2: إنها (عليها السلام) أوّل من أسلمت من النساء وآمنت برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)منهن، وأوّل من صلّت خلفه(صلى الله عليه وآله وسلم)(3). عن عفيف قال: كنت امرأ تاجراً فقدمت منى أيام الحج وكان العباس بن عبد المطلب امرأ تاجرا فأتيته أبتاع منه وأبيعه، قال: فبينا نحن إذا خرج رجل من خبأ يصلي فقام تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت تصلي وخرج غلام يصلي معه، فقلت: يا عباس ما هذا الدين، إن هذا الدين ما ندري ما هو؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر يستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به(4). وروى السيد بن طاوس عن كتاب الوصية لعيسى بن المستفاد عن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) قال: سألت عن بدء الإسلام كيف أسلم علي(عليه السلام) وكيف أسلمت خديجة؟ فقال: «تأبى إلا أن تطلب أصول العلم ومبتدأه، أما والله إنك لتسأل تفقها». ثم قال: «سألت أبي (عليه السلام) عن ذلك فقال لي: لما دعاهما رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: يا علي ويا خديجة أسلمتما لله وسلمتما له، وقال: إن جبرئيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام فأسلما تسلما وأطيعا تهديا». فقالا: «فعلنا وأطعنا يا رسول الله». فقال: «إن جبرئيل عندي يقول لكما: إن للإسلام شروطا وعهودا ومواثيق فابتدئاه بما شرط الله عليكما لنفسه ولرسوله أن تقولا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه في ملكه، لم يتخذ ولدا ولم يتخذ صاحبة، إلهاً واحداً مخلصاً، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى الناس كافة بين يدي الساعة، ونشهد أن الله يحيي ويميت ويرفع ويضع ويغني ويفقر ويفعل ما يشاء ويَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ». قالا: «شهدنا» الحديث(5). 3: تخصيص الباري لها بالسلام، فقد بلغ من قداسة السيدة خديجة (عليها السلام) عند الله تعالى أنّه عزّوجلّ كان يخصّها بالسلام. ففي الحديث أنّ جبرئيل أتى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فسأل عن خديجة فلم يجدها، فقال: إذا جاءت فأخبرها أنّ ربّها يقرؤها السلام(6). وروي أنه أتى جبرئيل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: هذه خديجة قد أتتك معها إناء مغطّى فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربّها ومنّي وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب(7). 4: بشارة الله وجبرائيل لها ببيت عظيم في الجنة، كما مر في الحديث الشريف السابق. 5: كثرة ثناء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)على السيدة خديجة (عليها السلام) كما مر في الحديث عن عائشة. وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت السيدة خديجة (عليها السلام) عزيزة عند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وتتمتع بمكانة خاصة في قلبه، حيث كان(صلى الله عليه وآله وسلم)يحبّها حبّاً جمّاً، ويعتزّ بها، ويقدر مواقفها المشرفة، والشواهد على ذلك كثيرة، منها: إنّ عجوزاً دخلت على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فألطفها، فلمّا خرجت سألته عائشة، فقال: «إنّها كانت تأتينا في زمن خديجة وإنّ حسن العهد من الإيمان»(8). وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: «ذكر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)خديجة يوماً وهو عند نسائه، فبكى، فقالت عائشة: ما يبكيك على عجوز حمراء من عجائز بني أسد؟ فقال: صدّقتني إذ كذبتم، وآمنت بي إذ كفرتم، وولدت لي إذ عقمتم. قالت عائشة: فما زلت أتقرّب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بذكرها»(9). وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «لمّا توفّيت خديجة (عليها السلام) جعلت فاطمة (عليها السلام) تلوذ برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وتدور حوله وتقول: يا أبت أين اُمّي؟ قال: فنزل جبرئيل (عليه السلام) فقال له: ربّك يأمرك أن تقرأ فاطمة السلام وتقول لها: إنّ اُمّك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وعمده ياقوت أحمر، بين آسية ومريم بنت عمران. فقالت فاطمة (عليها السلام): إنّ الله هو السلام ومنه السلام وإليه السلام»(10). وعن عبد الرحمن بن ميمون عن أبيه قال: سمعت ابن عباس يقول: (أول من آمن برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)من الرجال علي (عليه السلام) ومن النساء خديجة(عليها السلام))(11). بل إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)ـ وكما في التاريخ ـ أطلق على العام الذي توفّيت فيه السيّدة خديجة وأبو طالب (عليهما السلام) «عام الحزن»(12)، وهذا خير دليل على معزّته (صلى الله عليه وآله وسلم)لهما. النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يذكّر بفضائلها
وليس ذلك فحسب، وإنَما بقي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وبعد أن توفّيت السيدة خديجة(عليها السلام) يتذكّرها ويترحّم عليها ويشيد بفضائلها الكثيرة ويدافع عنها. فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: دخل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)منزله فإذا عائشة مقبلة على فاطمة (عليها السلام) تصايحها وهي تقول: والله يا بنت خديجة ما ترين إلاّ أنّ لاُمّك علينا فضلاً، وأي فضل كان لها علينا؟ ما هي إلاّ كبعضنا. فسمع مقالتها فاطمة(عليها السلام)، فلمّا رأت فاطمة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بكت. فقال لها: ما يبكيك يا بنت محمّد؟ قالت: ذكرت اُمّي فتنقّصتها، فبكيت. فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثم قال: مه ياحميراء، فإنّ الله تبارك وتعالى بارك في الولود الودود، وإنّ خديجة رحمها الله ولدت منّي طاهراً وهو عبد الله وهو المطهّر، وولدت منّي القاسم وفاطمة ورقية واُمّ كلثوم وزينب، وأنت ممّن أعقم الله رحمه فلم تلدي شيئاً(13). النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يصبّرها
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «دخل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)على خديجة حين مات القاسم أبنها وهي تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: درّت دريرة فبكيت. فقال: يا خديجة أما ترضين إذا كان يوم القيامة أن تجيء إلى باب الجنّة وهو قائم فيأخذ بيدك فيدخلك الجنّة وينزلك أفضلها، وذلك لكل مؤمن، إنّ الله عزّوجلّ أحكم وأكرم أن يسلب المؤمن ثمرة فؤاده ثم يعذّبه بعدها أبداً»(14). وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لمّا توفّي طاهر ابن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)نهى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)خديجة عن البكاء. فقالت: بلى يا رسول الله ولكن درّت عليه الدريرة فبكيت. فقال لها: أما ترضين أن تجديه قائماً على باب الجنّة فإذا رآك أخذ بيدك فأدخلك أطهرها مكاناً وأطيبها؟ قالت: وإنّ ذلك كذلك؟ قال: فإنّ الله أعزّ وأكرم من أن يسلب عبداً ثمرة فؤاده فيصبر ويحتسب ويحمد الله عزّوجلّ ثم يعذّبه»(15). حاجة جبرائيل
عن أبي سعيد الخدري: (إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: إنّ جبرئيل(عليه السلام) قال لي ليلة اُسري بي حين رجعت وقلت: يا جبرئيل هل لك من حاجة؟ قال: حاجتي أن تقرأ على خديجة من الله ومنّي السلام. وحدّثنا عند ذلك أنّها قالت حين لقيها نبي الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فقال لها الذي قال جبرئيل، قالت: إنّ الله هو السلام ومنه السلام وإليه السلام وعلى جبرئيل السلام)(16). خير النساء
عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «خير نسائها خديجة وخير نسائها مريم»(17). وعن ابن عباس قال: خط رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أربع خطط ثم قال: «خير نساء الجنّة مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون»(18). معرفة خديجة بمقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
يذكر أنّ الأحبار كانوا يتردّدون على السيدة خديجة (عليها السلام) وذلك لمكانتها الاجتماعية والاقتصادية، وكانت (عليها السلام) تكرمهم وتفيض عليهم من خيراتها الطائلة. وفي أحد الأيام وبينما كان أحد الأحبار في بيتها وهي جالسة مع جماعة من نسائها وجواريها إذا بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يمرّ، فنظر إليه ذلك الحبر وقال: يا خديجة قد مرّ الآن بدارك شاب حدث السن، فأمري من يأتي به. فأرسلت إليه جارية من جواريها وقالت: يا سيدي مولاتي تطلبك. فأقبل(صلى الله عليه وآله وسلم)ودخل منزل خديجة. فقالت: أيّها الحبر هذا الذي أشرت إليه؟ قال: نعم هذا محمّد بن عبد الله. وقال: طوبى لمن تكون لـه بعلاً وتكون لـه زوجة وأهلاً، فقد حازت شرف الدنيا والآخرة. فتعجّبت السيّدة خديجة، وانصرف الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وقد اشتغل قلبها بحبّه، وكانت السيّدة خديجة ملكة عظيمة ولها من الأموال والثروة الطائلة ما لا يحصى، فقالت: أيّها الحبر بم عرفت أنه نبي؟ قال: وجدت صفاته في التوراة أنه المبعوث آخر الزمان يموت أبوه واُمّه ويكفله جدّه وعمّه وأنّه سيتزوّج بامرأة من قريش سيدة قومها وأشار بيده إليها، ثم قال لها: احفظي ما أقول لك يا خديجة. فلمّا سمعت السيّدة خديجة ما نطق به الحبر تعلّق قلبها بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أكثر وكتمت أمرها. فلمّا أراد الخروج من عندها قال: اجتهدي أن لا يفوتك محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)فهو الشرف في الدنيا والآخرة(19). الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)يتاجر بأموال خديجة
كان أبو طالب (عليه السلام) قد كبر وضعف عن السفر وترك ذلك منذ أن كفل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي أحد الأيام دخل عليه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فوجده حزيناً مهموماً، فقال: ما لي أراك يا عم مهموماً؟ فقال: يا بن أخي إنه لا مال لنا وقد ضاق بنا الزمان وليس لنا مادّة وقد كبرت وضعف جسمي وقلّ ما بيدي وأرى أنّ الأجل قد قرب منّي ولا اُحب أن أموت قبل أن أرى لك زوجة يا ولدي لتسكن إليها. فقال لـه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما هو الرأي عندك يا عم؟ قال: اعلم يا بن أخي أنّ خديجة بنت خويلد قد انتفع بمالها أكثر الناس وهي تعطي أموالها لجميع من يسألها ليسافروا للتجارة به، فهل لك يا بن أخي أن تمضي معي إليها ونسألها أن تعطيك مالاً تتّجر فيه؟ فقال: نعم، قم إليها وافعل ما بدا لك(20). وبعد أن اتّفق أبو طالب مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)على أن يعمل في تجارة خديجة، أشار عليه أعمامه بأن يذهب معهم إلى دارها ليخبروها بالخبر. وبالفعل فقد قصد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأعمامه دار السيدة خديجة وطرقوا الباب، فاستقبلتهم استقبالاً حافلاً. وبعثت إليهم (ميسرة) ليرحّب بهم ويقدّم لهم مستلزمات الضيافة اللازمة فأكلوا وشرعوا في الحديث. فقالت لهم السيّدة خديجة من وراء الحجاب: لعلّ لكم حاجة فتقضى، فإنّ حوائجكم مقضية. فقال أبو طالب (عليه السلام): جئناك في حاجة يعود نفعها إليك وبركتها عليك. قالت: وما ذلك؟ قال: جئناك في أمر ابن أخي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فقالت: أين هو محمّد حتى نسمع ما يقول؟ فقال العباس: أنا آتيكم به. فنهض وسار يبحث عنه فلم يجده، فالتفت يميناً وشمالاً، فتساءل منه الناس وقالوا: ما تريد؟ فقال: اُريد محمّداً. فقالوا له: في جبل حرى(21). فسار إليه فإذا هو فيه، نائماً في مرقد إبراهيم الخليل (عليه السلام) ملتفّاً ببردة وعلى رأسه ثعبان عظيم، فلمّا نظر إليه العباس قال: خشيت عليه من الثعبان فسللت سيفي وهممت بالثعبان فحمل عليّ، ولمّا رأى العباس ذلك صاح برفيع صوته: أدركني يا بن أخي. ففتح النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)عينيه فذهب الثعبان. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما لي أرى سيفك مسلولاً يا عم؟ قال: رأيت هذا الثعبان عندك فسللت سيفي وقصدته خوفاً عليك منه فخشيت على نفسي الغلبة فصحت بك ولمّا فتحت عينك ذهب كأنه لم يكن. فتبسّم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقال: يا عم ليس هذا بثعبان، ولكنّه ملك من الملائكة ولقد رأيته مراراً وخاطبته جهاراً وقال لي: يا محمد إنّي ملك من عند ربّي موكّل بحراستك في الليل والنهار من كيد الأعداء والأشرار. فقال العباس: ما ينكر فضلك يا محمد؟ فقال له: لنذهب إلى دار خديجة بنت خويلد لتكون أميناً على أموالها. فسارا معاً إلى دارها، فجاءت السيّدة خديجة لتنظر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا دخل المجلس نهض أعمامه إجلالاً لـه وأجلسوه في أوساطهم، فلمّا استقرّ بهم المجلس قدّمت لهم الطعام فأكلوا ورحّبت بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقالت: أترضى أن تكون أميناً على أموالي تسير بها حيث شئت؟ قال: نعم رضيت. ثم قال: اُريد الشام. قالت: ذلك إليك. ثمّ إنّ السيّدة خديجة خاطبت الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)قائلة: تحسن أن تشدّ على الجمل وترفع عليه الأحمال؟ قال: نعم. فقالت: يا ميسرة إيتني ببعير حتى أنظر كيف يشدّ عليه محمد؟ فخرج ميسرة وأتى ببعير قوي لم يجسر أحد من الرعاة أن يخرجه من بين الإبل لشدّة بأسه فأدناه ليركبه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)فهدر البعير واحمرّت عيناه. فقال العباس لميسرة: ما كان عندك غير هذا البعير لتمتحن به ابن أخينا؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): دعه يا عم، فلمّا سمع البعير حديثه برك على قدميه وأخذ يمرّغ وجهه على قدمي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ونطق بلسان فصيح وقال: من مثلي وقد لمس ظهري سيد المرسلين!. فقلن النسوة اللاتي كن عند خديجة: ما هذا إلاّ سحر عظيم. فقالت لهم السيّدة خديجة: ليس هذا سحراً وإنّما هو آيات بيّنات وكرامات ظاهرات(22). خديجة تعتني بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
بعد أن تعاهدت السيّدة خديجة(عليها السلام) مع أعمام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)على أن تخوّله أموالها وتضع كل ما لديها تحت اختياره، عمدت (سلام الله عليها) إلى غلمانها وجعلت توصيهم به وتحثّهم على طاعته وخدمته طيلة سفرهم وحضرهم، الأمر الذي يدلّ على عظم معرفتها بقدر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فقد نقل المؤرخون أنه: لمّا خرج أولاد عبد المطّلب وأخذوا في أهبّة السفر التفتت السيّدة خديجة(عليها السلام) إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقالت: ألا تملك غير هذه الثياب؟ فليست هذه تليق للسفر. فقال: لست أملك غيرها. فبكت خديجة وقالت: عندي ما يصلح للسفر غير أنّهنّ طوال فانتظر حتى أقصرها لك. فقبل(صلى الله عليه وآله وسلم)بذلك وكان إذا لبس القصير يطول، وإذا لبس الطويل يقصر كأنه مفصّل عليه. فأخرجت لـه ثوبين من قباطي(23) مصر، وجبّة(24) عدنية، وبردة(25) يمنية، وعمامة عراقية، وخفّين من الأديم، وقضيب خيزران، فلبس النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الثياب وخرج كأنه البدر في تمامه. ثمّ إنّ السيدة خديجة(عليها السلام) قالت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أعندك ما تركب عليه؟ قال: إذا تعبت ركبت أي بعير أردت. فقالت: لا، كانت الأموال دونك. ثم قالت لعبدها ميسرة: إيتني بناقتي الصهباء حتى يركبها، فأتى بها ميسرة وقد كانت لا يلحقها في سيرها تعب ولا يصيبها نصب. ثم إنّها التفتت إلى غلاميها ميسرة وناصح وقالت لهما: اعلما أنّني قد أرسلت إليكما أميناً على أموالي وأنه سيد قريش فلا تخالفا أمره، فإن باع لا يمنع، وإن ترك لا يؤم، وليكن كلامكما لـه بلطف وأدب، ولا يعلو كلامكما على كلامه. فقال ميسرة: والله يا سيدتي إنّ لمحمد عندي محبّة عظيمة قديمة والآن قد تضاعف لمحبّتك له. ثم إنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ودّع السيّدة خديجة وركب راحلته وخرج وميسرة وناصح بين يديه(26). من معاجز الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
عندما خرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)إلى الشام للتجارة شاهد مرافقوه معاجز كثيرة أرشدتهم إلى عظمة شخصه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)ومدى قداسته عند الله تعالى، ونحن إذا أردنا التطرّق إلى هذه المعاجز لطال بنا المقام ولكن نذكر الشيء القليل منها موضّحين كيف أنّ مثل هذه المعاجز للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)جعلت السيدة خديجة (عليها السلام) تتعرف على شخصيته(صلى الله عليه وآله وسلم)أكثر فأكثر(27). فقد روى المؤرخون أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)سار مجدّاً للسير إلى الأبطح فوجد القوم منتظرين قدومه، فلمّا نظروا إلى جماله(صلى الله عليه وآله وسلم)استرّ المحبّ واغتمّ الحاسد. ثم إنهّ(صلى الله عليه وآله وسلم)شاهد أموال السيّدة خديجة على الأرض ولم يحمل منها شيء فنادى في العبيد وقال: ما الذي منعكم عن شدّ رحالكم؟ قالوا: يا سيدنا لقلّة عددنا وكثرة متاعنا. فأبرك(صلى الله عليه وآله وسلم)راحلته ونزل وصار يصيح بالبعير فيقول: بإذن الله تعالى، فتعجّب الناس من فعله. فنظر العباس إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقد احمرّت وجهه، فقال: كيف أترك الشمس تتعرّض لهذا الوجه الكريم، فعمد إلى خشبة وقال: لأتّخذن منها جحفة تظلّله من حرارة الشمس. فأمر الباري تعالى الأمين جبرئيل (عليه السلام) أن يأمر رضوان كي يخرج الغمامة المختصّة بالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)قبل خلق آدم (عليه السلام) بألفي عام، فلمّا رأوا الناس الغمامة شخصت أبصارهم نحوها وقال العباس: إنّ محمداً لكريم على ربّه ولقد استغنى عن جحفتي. ثم إنّ القوم ساروا حتى نزلوا بجحفة الوداع وحطّوا رحالهم ليلحق بهم المتأخرون، فقال أحدهم: يا قوم إنّكم سائرون إلى أرض كثيرة الأوعار(28) وليس لكم من تستشيرونه وترجعون إلى أمره، والرأي عندي أنّكم تقدمون عليكم رجلاً لتستندوا إلى رأيه وترجعوا إلى أمره. فاختلف القوم كل يريد أن يقدّم زعيمه، إلى أن قال ميسرة: والله ما نقدّم إلاّ سيدنا محمّد بن عبد الله، وقال بنو هاشم: ونحن أيضاً نقدّم محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم). فأراد أبو جهل أن يعارض في ذلك فانبرى لـه حمزة سيد الشهداء (عليه السلام) وحال دون مراده فتشادّا. فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لعمّه حمزة: يا عمّاه دعوا القوم يسيرون أول النهار ونحن نسير آخره، فإنّ التقدّم لقريش(29). في وادي الأمواه
ثم إنّهم ساروا إلى أن بعدوا عن مكة فنزلوا بوادٍ يقال لـه «وادي الأمواه» لأنه مجتمع السيول وأنهار الشام ومنه تنبع عيون الحجاز، فنزلوا وحطّوا رحالهم وإذا بالسحب قد اجتمعت، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أخشى على أهل هذا الوادي أن يباغتهم السيل فيذهب بأموالهم، والرأي عندي أن نلوذ إلى هذا الجبل. فقال لـه العباس: نعم ما رأيت يا بن أخي. فأمر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أن ينقلوا رحالهم إلى الجبل، ففعلوا إلاّ رجلاً من جمح وكان لـه مال كثير فأبى أن يتغيّر من مكانه وقال: ما أضعف قلوبكم تفرّون من شيء لم تروه؟! فما استتمّ كلامه إلاّ وتراكمت السحب ونزل السيل وامتلأ الوادي وأصبح الرجل كأنه لم يكن. وقد مكث القوم في ذلك المكان أربعة أيام والسيل يزداد، فقال ميسرة: يا سيدي هذه السيول لا تنقطع إلى شهر وإن أقمنا هاهنا نفد زادنا، والرأي عندي أن نرجع إلى مكة. فلم يجبه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)إلى ذلك. ثم إنّه(صلى الله عليه وآله وسلم)نام فرأى في منامه ملكاً يقول لـه: يا محمد لا تحزن إذا كان غداة غد مُر قومك بالرحيل وقف على حافّة الوادي فإذا رأيت الطير الأبيض قد خط بجناحه فاتبع الخط وأنت تقول: (بسم الله بالله) وأمر قومك أن يقولوا هذه الكلمة فمن قالها سلم ومن لم يقلها غرق. فاستيقظ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وهو فرح مسرور، ثم أمر ميسرة أن ينادي في الناس بالرحيل فرحلوا. فقال الناس: يا ميسرة وكيف نسير وهذا الماء لا تقطعه إلاّ السفن؟ فقال: أمّا أنا فإنّ سيّدي أمرني وأنا لا اُخالفه. فقال القوم: ونحن أيضاً لا نخالفه. فسار القوم، وتقدّم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ووقف على حافّة الوادي وإذا بالطير الأبيض قد أقبل من قمّة الجبل وخطّ بجناحيه خطاً أبيض يلمح، فشمّر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أذياله واقتحم الماء وهو يقول: بسم الله وبالله، فلم يصل الماء إلى نصف ساقه، ونادى: أيّها الناس لا يدخل أحد منكم الماء حتى يقول هذه الكلمة فمن قالها سلم، ومن لم يقلها هلك. فاقتحم القوم الماء وهم يقولون الكلمة ولم يتأخر منهم إلاّ رجلين، فقال أحدهما: بسم الله وبالله. وقال الآخر: بسم اللاّت والعزّى، فغرق الثاني وأمواله، وسلم الآخر وأمواله. فقال القوم للأول: ما بال صاحبك غرق؟ قال: إنه قد خالف قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فغرق. فاغتمّ أبو جهل وقومه من ذلك وقالوا: ما هذا إلاّ سحر عظيم. فقال لـه بعض أصحابه: ما هذا بسحر ولكن والله ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)(30). كرامة أخرى
ثم إنّهم ساروا حتى نزلوا على بئر كانت تنزل عنده العرب في طريقها إلى الشام، فعمد أبو جهل إلى الرمل والحصى وملأ حجره وطمّ به البئر، فقال لـه أصحابه: ولِمَ تفعل ذلك؟ فقال: اُريد دفنها حتى إذا جاء بنو هاشم وقد أجهدهم العطش فيموتوا عن آخرهم. ففعل القوم مثل فعله ولم يتركوا للبئر أثراً. فقال أبو جهل: الآن قد بلغت مرادي، ثم التفت إلى عبد لـه اسمه فلاح وقال له: خذ هذه الدابة وهذه القربة والزاد واختف تحت الجبل فإذا جاء ركب محمّد وقد أجهدهم العطش والنصب ولم يجدوا للبئر أثراً فيموتوا فائتني بخبرهم فإذا بشّرتني بموتهم أعتقتك وزوّجتك بمن تريد من أهل مكة. فقال الغلام: سمعاً وطاعة وحبّاً وكرامة. ثم سار أبو جهل وبقي العبد كما أمره، وما هي إلاّ ساعات وإذا بركب بني هاشم قد أقبل يتقدّمهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتبادر القوم إلى البئر فلم يجدوا لـه أثراً، فضاقت صدورهم وأيقنوا بالهلاك فلاذوا بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لهم: هل كان هنا موضع فيه ماء؟ قالوا: نعم، كانت هناك بئر قد ردمت بالرمل والحجارة. فمشى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)حتى وقف على حافّة البئر، فرفع طرفه نحو السماء ودعا الله أن يسقيهم، فإذا بالحجارة والرمل قد تفرّقت ونبعت عين الماء وجرى الماء من تحت أقدامه. فسقى القوم دوابهم وملئوا قربهم وساروا، وسار العبد إلى أبي جهل وقال: ما وراءك؟ فقال: والله ما أفلح من عادى محمّداً، وحدّثهم بما شاهد منه. فامتلأ غيظاً وقال له: غيّب وجهك عنّي فلا أفلحت أبداً(31). وادي ذبيان
ثم إنّ الركب سار حتى بلغ وادياً من أودية الشام يقال لـه «ذبيان»(32) وكان كثير الأشجار، فخرج منه ثعبان كبير بحيث إنّ ناقة أبي جهل خافت منه ورمته فغشي عليه، فلمّا أفاق قال لعبيده: تأخّروا جانباً فإذا جاء ركب بني هاشم يتقدّمهم محمّد قدّموه علينا لترى ناقته الثعبان، فعسى أن ترميه إلى الأرض فيموت! . وبالفعل فقد امتثل العبيد ما أمرهم به، وإذا بركب بني هاشم قد أقبل يتقدّمهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال(صلى الله عليه وآله وسلم)لهم: أراكم قد نزلتم وليس هو وقت نزولكم؟ فقال لـه أبو جهل: لقد استحييت أن أتقدّم عليك فتقدّم، فلعن الله من يبغضك. ففرح العباس بذلك وأراد أن يتقدّم، فنهاه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وتقدّم أمامهم ودخل إلى ذلك الشعب وإذا بالثعبان قد ظهر، فارتعدت منه ناقة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فزعق بها (صلى الله عليه وآله وسلم). ثم التفت إلى الثعبان وقال له: ارجع من حيث أتيت. فنطق الثعبان بقدرة الله تعالى وقال: السلام عليك يا محمد. فأجاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)سلامه. فقال الثعبان: يا محمد ما أنا من هوام الأرض وإنّما أنا ملك من ملوك الجن وقد آمنت على يد أبيك إبراهيم الخليل (عليه السلام) وسألته الشفاعة، فقال: هي لولد يظهر من نسلي يقال لـه محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)ووعدني أن أجتمع بك في هذا المكان، وقد شاهدت المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) ليلة عرج به إلى السماء وهو يوصي الحواريين باتّباعك والدخول في ملّتك والآن قد جمع الله شملي بك فلا تنسني من الشفاعة يا سيد المرسلين. فقال لـه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لك ذلك عليّ فعد من حيث جئت ولا تتعرّض لأحد من الركب. فغاب الثعبان، فلمّا نظر القوم إلى كلامه عجبوا من ذلك، وازداد أعمام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يقيناً بنبوّة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وفرحاً(33). نبع الماء من بين أصابعه (صلى الله عليه وآله وسلم)
ثم إنّهم ساروا ونزلوا وادياً كانوا يستفيدون من الماء الذي فيه منذ القدم فلم يجدوا فيه شيئاً، فشمّر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)عن ذراعيه وغمس كفّيه في الرمل ورمق بطرفه السماء ودعا بكلمات، فنبع الماء من بين أصابعه وجرت على الأرض أنهار. فقال العباس: أمسك يا بن أخي أخشى أن تغرق أموالنا، فشربوا جميعاً وملئوا قربهم وسقوا دوابهم. فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لميسرة: إذا كان عندك شيء من التمر فأحضره، فكان(صلى الله عليه وآله وسلم)يأكل التمر ويغرس النوى في الأرض، فقال لـه العباس: لِمَ تفعل ذلك يا بن أخي؟ قال: يا عم اُريد أن أغرسها نخلاً. فقال العباس: ومتى تأكل ثماره؟ قال: الساعة نأكل منها ونتزوّد إن شاء الله تعالى. فقال العباس: إنّ النخلة إذا غرست تثمر في خمس سنين؟! قال: يا عم سوف ترى من آيات ربّي الكبرى. وبعد ذلك ساروا حتى غابوا عن الوادي، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عم ارجع إلى الموضع الذي غرست فيه النخلات واجمع لنا ما نأكله. فعاد العباس فرأى النخلات قد أثمرت، فملأ منها راحلته والتحق بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فكان يأكل منه ويطعم القافلة. آنذاك غضب أبو جهل وقال: لا تأكلوا يا قوم ممّا يصنعه محمّد الساحر. فأجابوه قائلين: ما هذا بسحر. مع الراهب النصراني
وما هي إلاّ ساعة حتّى تحرّك الركب إلى أن وصلوا عقبة أيلة(34) وكان بها دير(35) وقد كان مملوّاً رهباناً، وكان فيهم راهب يرجعون إليه قد طالع الكتب وعنده سفر(36) قديم فيه صفة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)من عهد عيسى بن مريم (عليه السلام) . وكان إذا قرأ الإنجيل على الرهبان ووصل إلى صفاته(صلى الله عليه وآله وسلم)بكى وقال: متى تبشّروني بمجيء البشير النذير الذي يبعثه الله من تهامة(37) متوّجاً بتاج الكرامة تظلّه الغمامة يشفع في العصاة يوم القيامة؟ فقال لـه الرهبان: لقد قتلت نفسك بالبكاء والأسف على هذا الذي تذكره وعسى أن يكون قد قرب وقته. فقال: إي والله إنه قد ظهر بالبيت الحرام ودينه عند الله الإسلام فمتى تبشّروني بقدومه من أرض الحجاز؟ فبقي الراهب على تلك الحال حتّى قدم بعض الرهبان وقد أشرقت الأنوار من جبين النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فنظر الرهبان إلى نوره، فقالوا: يا أبا الرهبان هذا ركب قد أقبل من الحجاز. فقال: يا أولادي كثيراً ما مرّت بنا الركبان. فقالوا: يا أبانا قد رأينا نوراً قد علا. فرمق بطرفه نحو السماء وقال: إلهي بجاه هذا المحبوب الذي زاد فيه تفكّري إلاّ ما رددت عليّ بصري. فما استتمّ حديثه حتى ردّ الله عليه بصره، فقال للرهبان: كيف رأيتم جاه هذا الرسول عند علاّم الغيوب؟. ثم إنّه قال لمن حوله: إن كان النبي المبعوث في هذا الركب فلابدّ أن ينزل تحت هذه الشجرة فإنّها تخضرّ وتثمر، فقد جلس تحتها العديد من الأنبياء وهي من عهد عيسى بن مريم (عليه السلام) يابسة، وهذه البئر لم نر فيها ماء، فإنه يأتي إليها ويشرب منها. فما هي إلاّ ساعة وإذا بالركب قد أقبل ونزلوا عند البئر وحطّوا رحالهم وكان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يحبّ الخلوة بنفسه فجلس تحت الشجرة فاخضرّت وأثمرت من ساعتها. فما استقرّ بهم المجلس حتى قام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فمشى إلى البئر وكانت قد جفّت، فنظر إليها وتفل فيها فتفجّرت منها عيون كثيرة ونبع منها ماء معين. فلمّا رأى الراهب ذلك قال: يا أولادي هذا هو المطلوب، فإنه سيد الأنام لنأخذ منه الذمّة لبقيّة الرهبان. فبادروا وهيّئوا الولائم فرحاً به وانزلوا إلى سيّد القافلة وقولوا له: إنّ أبانا يسلّم عليك وهو يدعوك إلى وليمته. فنزل بعضهم ولم ير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأخبر أبا جهل بما قاله الراهب، فنادى في العرب إنّ هذا الراهب قد صنع لأجلي وليمة واُريد أن تجيبوا دعوته. فقال القوم: من نترك عند أموالنا؟ فقال أبو جهل: اجعلوا محمّداً عندها فهو الصادق الأمين. وبالفعل، فقد جاء القوم إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وسألوه أن يجلس عند متاعهم وذهبوا إلى الراهب يتقدّمهم أبو جهل. فلمّا دخلوا على الدير رحّب بهم وقدّم لهم الطعام، فشرعوا بالأكل وأخذ الراهب ينظر إليهم رجلاً بعد الآخر، فلم ير صفة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في أحدهم، فقال: وا خيبتاه إنّ الذي انتظرناه لم نجده. ثم قال بعد ذلك: يا أسياد قريش هل بقي منكم أحد؟ فقال أبو جهل: نعم بقي صبي صغير أجير على أموال بعض نسائنا. فنهره حمزة سيد الشهداء (عليه السلام) وقال: لِمَ لا قلت: تأخّر منّا البشير النذير والسراج المنير، تركناه عند متاعنا لأمانته وليس فينا أصلح منه. ثم التفت حمزة (عليه السلام) إلى الراهب وقال: أرني السفر وأخبرني بما فيه. ولمّا لاحظوا الصفات التي فيه قال العباس: يا راهب إذا رأيته تعرفه؟ قال: نعم. قال: سر معي إلى الشجرة فإنّ صاحب هذه الصفة تحتها. فخرج الراهب من الدير مجدّاً في خطواته حتى بلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا رآه نهض قائماً وقال: مرحباً، السلام عليك يا رسول الله. فقال لـه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وعليك السلام يا عالم الرهبان ويا ابن اليونان. فقال الراهب: وما أدراك أنّي ابن اليونان. قال: الذي أخبرك أنّي اُبعث في آخر الزمان. فانكبّ الراهب على قدميه يقبّلهما. ثم إنه اصطحب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)إلى وليمته، ولمّا أشرف على القوم قاموا لـه إجلالاً وأجلسوه في أوساطهم في أعلى مكان. ووقف الراهب بين يديه والرهبان حوله، فرمق الراهب بطرفه السماء وقال: إلهي وسيدي ومولاي أرني خاتم النبوّة. فأرسل الله عزّوجلّ جبرئيل ورفع ثيابه عن ظهره، فظهر خاتم النبوّة بين كتفيه فسطع منه نور ساطع. فلمّا رآه الراهب خرّ ساجداً هيبة من ذلك النور، ثم رفع رأسه وقال: هو أنت حقّاً(38). محاولة اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
لا يخفى أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)تعرّض في حياته أكثر من مرّة لمحاولة اغتيال من قبل اليهود وغيرهم، ومنها عندما نزل(صلى الله عليه وآله وسلم)في الشام التي قدم إليها للتجارة في أموال السيدة خديجة (سلام الله عليها). ففي التاريخ أنّ قافلة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لمّا نزلت أرض الشام ونزلوا بها تبادر أهل المدينة واشتروا بضاعتهم وباعت قريش بضائعها بأغلى الأثمان، وأمّا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فإنه لم يبع شيئاً من بضاعته، حتّى أنّ أبا جهل أخذ يسخر به. فلمّا أصبح الصباح نادى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في العرب، فلمّا أقبلوا يريدون البضائع لم يجدوا إلاّ بضائع خديجة فاشتروها بأضعاف ما باعت قريش، فاغتمّ أبو جهل لذلك غمّاً شديداً، ولم يبق من بضائع خديجة إلاّ حمل بعير فجاء رجل من أحبار اليهود وكهّانهم وكان قد اطّلع على صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا نظر إليه عرفه بالنور وقال: هذا الذي يسفّه أحلامنا ويعطّل أدياننا ويرمّل نسواننا، ولذا فإنه قصد قتله(صلى الله عليه وآله وسلم)فدنا منه وقال: بكم هذا الحمل؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): بخمسمائة درهم لا ينقص منها شيء. قال: اشتريت بشرط أن تسير معي إلى منزلي. فقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسارا إلى منزله، فلمّا قرب اليهودي من منزله هرع إلى زوجته وقال لها: اُريدك منك أن تعينيني على قتل هذا الذي يعطّل أدياننا. فقالت: وماذا أصنع به؟ قال: خذي فردة الرحى واجلسي على باب الدار فإذا رأيتيه قبض منّا الثمن وخرج، ارميها عليه لتقتله ونستريح منه. وبالفعل فقد أخذت زوجة اليهودي الرحى وصعدت إلى سطح الدار، فلمّا خرج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)همّت أن تلقيها عليه فأمسك الله يديها ورجف قلبها وغشي عليها وكان لها ولدان قائمان بفناء الدار فسقطت الرحى عليهما فماتا. فلمّا نظر اليهودي إلى ما جرى على أولاده نادى قومه برفيع صوته، فأجابوه من كل حدب وصوب وقالوا له: ماذا بك؟ فقال: اعلموا أنه قد حلّ ببلدكم هذا الرجل الذي يعطّل أديانكم ويسفّه أحلامكم وقد دخل منزلي وقتل أولادي. فلمّا سمعوا ذلك منه ركبوا خيولهم وجرّدوا سيوفهم وحملوا على قريش كافة. فلمّا نظر أعمام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)إلى اليهود، همّوا بهم وارتفع الصياح. وآنذاك وبعد أن رأى اليهود بأس قريش أجمعوا على أن يبعثوا بعض رؤسائهم مجرّدين عن السلاح. فلمّا رأتهم قريش من غير سلاح قالوا ما شأنكم؟ قالوا: إنّ هذا الرجل الذي معكم ـ يعنون بذلك النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ـ أول من يبدئ بخراب دياركم وقتل رجالكم وتحطيم أصنامكم، والرأي عندنا أن تسلّموه لنا حتى نقتله ونستريح منه نحن وأنتم. فلمّا سمع حمزة الكلام قال: يا ويلكم هيهات هيهات أن نسلّمه إليكم، فهو نورنا وسراجنا ولو تلفت فيه أرواحنا فهي فداه دون أموالنا. فيئس اليهود من بلوغ مرادهم ورجعوا على أعقابهم(39). عودة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)إلى مكّة
ينقل المؤرخون أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)حينما أشرف على مشارف مكة المكرّمة بعث المخبرين كي يبشّروا بقدومه إلى مكة … وبالفعل، فقد أخذ المبشّرون يبشّرون بقدومه(صلى الله عليه وآله وسلم)ويخبرون الناس عن عظيم تجارته ومدى موفّقيته في سفره، وكيف أنه(صلى الله عليه وآله وسلم)حاز على الكثير من البركات في هذه السفرة الشاقّة. ولذا فإنّهم لمّا علموا بالخبر خرجوا مبادرين يسبقهم عبيد خديجة وجواريها، فكان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لا يمرّ على عبد من عبيد خديجة إلاّ يعقر ناقة فرحاً بقدومه. ثم تفرّق الناس إلى منازلهم ونظرت السيّدة خديجة(عليها السلام) إلى جِمالها وقد أقبلت سالمة وكانت قد اعتادت أن يموت بعضها في كل سفرة ويجرّب البقية إلاّ في هذه السفرة، فإنّها لم تنقص منها شعرة، فوقف الناس متعجّبين من ذلك وأخذوا يتساءلون لمّا تمرّ بهم الجمال: لمن هذه؟ فيقال: هذا ما أفاده محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)لخديجة من الشام. فذهلت عقولهم. ولمّا اجتمعت أموال السيّدة خديجة فكّوا رحالها وعرضوا الجميع عليها وكانت جالسة خلف الحجاب والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)جالس وسط الدار و(ميسرة) يعرض عليها الأمتعة شيئاً فشيئاً. فدهشت من بركة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وبعثت إلى أبيها تخبره بذلك وترغّبه في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فما هي إلاّ ساعة واحدة وإذا بخويلد قد أقبل ودخل منزل السيّدة خديجة وإذا بها تقوم لـه إجلالاً وتجلسه إلى جنبها وتبدأه بالترحيب به، ثم أخذت تعرض عليه البضائع وهي تقول: يا أبت هذا كلّه ببركة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)والله يا أبتاه إنه مبارك(40). طلب الزواج من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
هناك الكثير من المؤيّدات التي تدل على أنّ السيدة خديجة (عليها السلام) لم تكن على دين أهل مكة من الشرك، بل كانت مؤمنة على دين إبراهيم الخليل (عليه السلام) ، منها: حرصها الشديد على أن تكون هي صاحبة الشرف العظيم في أن تكون زوجة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وهذا إنما يدلّ على عمق معرفتها وتقديسها للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)الذي يحمل في جبينه نور الرسالة الخاتمة. نعم، فلمّا عرفت السيدة خديجة مقام الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)واطمأنت بأنه نبي آخر الزمان بذلت كل ما لديها كي تنال شرف الزواج منه. ففي التاريخ أنّها (عليها السلام) عرضت نفسها عليه(صلى الله عليه وآله وسلم)وقالت له: قم إلى عمومتك وقل لهم يخطبوني لك من أبي، ولا تخش من كثرة المهر فهو عندي. فخرج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)من عندها ودخل على عمّه أبي طالب (عليه السلام) والسرور في وجهه، فوجد أعمامه مجتمعين فنظر إليه أبو طالب (عليه السلام) وقال: يا بن أخي يهنؤك ما أعطتك خديجة وأظنّها قد غمرتك من عطاياها؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عم لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: تنهض أنت وأعمامي هذه الساعة إلى خويلد وتخطبون لي منه خديجة. فاختلف أعمام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بين مؤيّد ومخالف. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا معشر الأعمام قد أطلتم الكلام فيما لا فائدة فيه، قوموا واخطبوا لي خديجة من أبيها فما عندكم من العلم مثل ما عندي منها(41). ميسرة يتحدّث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
من الذين أشادوا بفضائل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وحدّثوا السيدة خديجة (عليها السلام) عن عظيم مقاماته هو (ميسرة) خادمها الذي رافق النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)طيلة سفره إلى الشام وشاهد بعينيه كل المعاجز والكرامات المحمودة التي اتّفقت لـه أثناء الطريق. فلمّا عاد ميسرة من السفر التفتت إليه السيدة خديجة وقالت: حدّثني كيف كان سفركم؟ وما الذي عاينتم من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: يا سيدتي وهل اُطيق أن أصف لك بعضاً من صفاته وما عاينت منه(صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم أخبرها بحديث السيل والبئر والثعبان والنخل وما أخبره الراهب وما أوصاه إلى خديجة. فقالت: حسبك يا ميسرة اذهب فأنت حرّ لوجه الله، وزوجتك وأولادك، ولك عندي مائتا درهم وراحلتان وخلعت عليه خلعة سنية(42) وقد امتلأ سروراً وفرحاً. ثم إنّ السيّدة خديجة (عليها السلام) التفتت إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقالت: يا سيدي كيف كان سفركم؟ فأخذ(صلى الله عليه وآله وسلم)يحدّثها بما باعه وما شراه. فرأت خديجة ربحاً عظيماً، وقالت: يا سيدي لقد فرّحتني بطلعتك وأسعدتني برؤيتك فلا لقيت بؤساً ولا رأيت نحوساً(43). السيّدة صفية تخطب للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
ولمّا علمت السيّدة صفية عمّة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)برغبة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في الزواج من السيدة خديجة (عليها السلام) وبعد أن اطّلعت أنّ السيّدة خديجة هي التي عرضت نفسها عليه(صلى الله عليه وآله وسلم)أرادت أن تطمأن لصدق الخبر، لعلمها أنّ السيدة خديجة (عليها السلام) كانت قد ردّت الكثير من أسياد قريش وخشيت أن تكون السيدة خديجة (عليها السلام) غير جادّة في رغبتها، ولذا فإنّها (رضوان الله عليها) قالت لأعمام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): سأذهب إليها واُبيّن لكم الأمر. فسارت إلى دار خديجة، فلقيتها بعض جواريها في الطريق فسبقتها إلى الدار وأخبرت السيّدة خديجة بقدومها. وكانت السيدة خديجة تريد النوم فنهضت وهيّأت لها المكان. فطرقت صفيّة الباب، ففتح وجاءت إلى السيّدة خديجة، فرحّبت بها كثيراً. فقالت السيّدة صفيّة: يا خديجة جئت أسألك عن كلام أهو صحيح أم لا؟ فقالت خديجة: بل هو صحيح إن شئت تخفيه أو شئت تبديه، وأنا قد خطبت محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم)لنفسي وتحمّلت عنه مهري وإنّي قد علمت أنه مؤيّد من ربّ السماء. فتبسّمت صفية من كلامها واسترّت منه. ولمّا عزمت السيّدة صفيّة على الخروج من الدار، قالت لها السيّدة خديجة: انتظري قليلاً، وقالت: يا صفية بالله عليك إلاّ ما أعنتيني على حاجتي. فرجعت صفية إلى أعمام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فقالت: يا إخوتي قوموا إن كنتم قائمين فو الله إنّ لها في ابن أخيكم محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)رغبة، ففرحوا بذلك(44). أعمام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يقصدون خويلد
وعندما عادت السيّدة صفيّة وأخبرت أعمام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)برغبة السيّدة خديجة في الزواج منه(صلى الله عليه وآله وسلم)عمد أبو طالب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وألبسه أحسن الثياب وأفخرها وقلّده سيفاً وأركبه على جواده وأحدق به عمومته من كل جانب، ثمّ ساروا حتّى وصلوا منزل خويلد فسبقتهم الجواري إليه. فلمّا نظر خويلد إلى بني هاشم قام لهم ورحّب بهم. فقال أبو طالب (عليه السلام) له: يا خويلد ما جئنا إلاّ لحاجة وأنت تعلم قربنا منكم ونحن في هذا الحرم أبنا أب واحد وقد جئنا خاطبين ابنتك خديجة لسيدنا ونحن لها راغبون. فقال خويلد: ومن الخاطب منك؟ ومن المخطوبة منّي؟ فقال أبو طالب: الخاطب منّا محمّد ابن أخي والمخطوبة خديجة. فلمّا سمع ذلك خويلد تغيّر لونه وقال: والله إنّ فيكم الكفاية وأنتم أعزّ الخلق علينا ولكن خديجة قد ملكت نفسها وعقلها أوفر من عقلي(45). ورقة يرغّب خديجة في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقد كانت السيدة خديجة (سلام الله عليها) تقدّس عمّها ورقة بن نوفل وتحترم آراءه كثيراً بل ـ وكما في التاريخ ـ أنّها كانت تستشيره في اُمورها الصعبة المهمّة. وكما ورد في التاريخ أنّها (عليها السلام) لمّا رغبت في الزواج من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)اطّلع ورقة على حالها وقد كان مطّلعاً على أحوال نبي آخر الزمان وكيف أنه يتزوّج بامرأة تسود قومها، فرغّبها في الزواج منه وأشار عليها بفضائل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ومدى قداسة المرأة التي ستكون زوجة له. فقد نقل العلامة المجلسي (رضوان الله تعالى عليه) في (البحار) أنه: كان لخديجة عم يقال لـه ورقة، وكان قد قرأ الكتب كلّها وكان عالماً حبراً، وكان يعرف صفات نبي آخر الزمان، وكان عنده أنه يتزوّج بامرأة سيدة من قريش تسود قومها وتنفق عليه مالها وتمكّنه من نفسها وتساعده على كل الاُمور، فعلم ورقة أنه ليس بمكة أكثر مالاً من خديجة، فرجا ورقة أن تكون ابنة أخيه خديجة وكان يقول لها: ياخديجة سوف تتّصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض والسماء(46). مهر السيدة خديجة (عليها السلام)
لقد كانت السيّدة خديجة (عليها السلام) عظيمة الشأن، عارفة بقداسة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)مطّلعة على جلالة قدره وارتفاع مقامه الشامخ، ولذا فإنّها(عليها السلام) كانت تبذل الغالي والنفيس حتّى تحظى بزواجها منه (صلى الله عليه وآله وسلم). فقد دفعت مبلغ المهر للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)مع أنّها (عليها السلام) رفضت الزواج من أسياد العرب وزعمائهم. وهذا إنما يدل على غور معرفتها ومدى رغبتها في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ولذا فإنّ عمّها ورقة لمّا قال: نريد مهرها وهو كذا وكذا، أجابه أبو طالب(عليه السلام) قائلاً: رضينا بذلك. فقال خويلد: قد زوّجت خديجة بمحمد على ذلك. فقبل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)عقد النكاح. فنهض حمزة وكان معه دراهم فنثرها على الحاضرين. وفي نفس الوقت قام أحد الحاضرين وقال: يا قوم رأينا الرجال يمهرون النساء، ولم نر النساء يمهرن الرجال؟ فنهض أبو طالب (عليه السلام) وأجابه قائلاً: مثل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)يحمل إليه ويٌعطى ومثلك من يهدي ولا يقبل منه. ثم إنّه سمع الناس منادياً ينادي من السماء: إنّ الله تعالى قد زوّج بالطاهر الطاهرة وبالصادق الصادقة. وأمر الله عزّوجلّ جبرئيل أن يرسل على الناس الطيّب على البرّ والفاجر. ثمّ إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ذهب إلى منزل عمّه أبي طالب (عليه السلام) وقد أحدق به أعمامه من كل حدب وصوب فاجتمعوا في دار خديجة (عليها السلام). وقد بعثت السيّدة خديجة (عليها السلام) أربعة آلاف دينار إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وقالت: ابعثها إلى عمّك العباس ليرسلها إلى أبي، وأرسلت مع المال خلعة(47) سنيّة، فسار بها كل من العباس وأبو طالب إلى منزل خويلد وألبساه الخلعة. فقام خويلد من ساعته إلى دار ابنته السيّدة خديجة وقال: يا بنية ما الانتظار بالدخول؟ جهّزي نفسك فهذا مهرك أرسلوه إليّ وأعطوني هذه الخلعة. آنذاك التفتت السيّدة خديجة (عليها السلام)إلى عمّها ورقة وقالت: خذ هذه الأموال إلى محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)وقل لـه: هذه هدية لك تصرّف فيها كيف تشاء، وقل لـه: إنّ مالي وعبيدي وجميع ما أملك وما هو تحت يدي فقد وهبته لـه(صلى الله عليه وآله وسلم)إجلالاً وإعظاماً. فوقف ورقة بين زمزم والمقام ونادى بأعلى صوته: يا معاشر العرب إنّ خديجة تشهدكم على أنّها قد وهبت نف | |
|